الجمهورية الثانية والنصف!

خميس, 27/10/2016 - 12:42

أكاد أجزم بأن نظرية الجمهوريات ذات الأرقام التسلسلية، هي في الأصل مكيدة مبيتة من طرف مدنيين، لطمس آثار العسكر داخل السلطة وإرسالهم خارج الذاكرة،
بجمهوريتين وسبعة انقلابات عسكرية، تعتبر موريتانيا مثالا حيا على هذا الأمر، فلكي تقرأ تاريخ جمهوريتنا الفتية،عليك أن تقفز من الجمهورية الأولى التي توقف العمل بها في شهر يوليو/ تموز 1978 بفرمان عسكري، إلى الجمهورية الثانية التي خرجت إلى النور أيضا في شهر يوليو/ تموز من عام 1991، بفرمان عسكري آخر!
أكثر من عشر سنوات طويلة من الأحكام العسكرية الاستثنائية، ما بين الجمهوريتين الأولى والثانية، تحولت إلى رماد نثرناه بعيدا عن ذاكرتنا، فتاريخ الجمهوريات عبر العالم، ما يفتأ يتخلص من كل "الضحالات" والمستنقعات التي تنبت على حافاته،
لكن الغريب، هو أنه بقدر ما مثلت تلك الجمهوريات التسلسلية، وسيلة لإرسال العسكر وسنوات حكمهم إلى النسيان، بقدر ما وقف بعض هؤلاء العسكر أنفسهم وراء تأسيس الكثير من تلك الجمهوريات!
الجنرال شارل ديغول، ابن فرنسا المدلل الذي كانت قامته وسمعته تطاولان السماء، هو مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي لا تزال قائمة منذ أكتوبر 1958 إلى أيامنا هذه،
لم يفلح ساركوزي وسنيه الخمس في قصر الأليزيه في وأدها وإقامة جمهورية سادسة على أنقاضها كما أراد بقوة، ليس فقط لأن فرنسا لم تكن مستعدة لجمهورية جديدة، بل لأن زعيم اليمين الفرنسي وقتها، المزهو بنفسه لدرجة الغرور، لم يكن يملك ولو ومضة واحدة من بريق العملاق شارل ديغول،
في موريتانيا، كان الأب الشرعي للجمهورية الثانية عسكري برتبة عقيد، حتى وإن اختلفت الظروف والسياقات هنا عنها هناك وحتى إن أفاد أكثر من شاهد إثبات، أن الرجل لا دخل له في تلك الجمهورية وإنما اصطحبها معه عنوة داخل طرد مختوم، في رحلة العودة من منتجع سياحي جميل يقع غرب فرنسا!
بعد انقلاب الثالث من أغسطس 2005، كان يمكن لعسكري آخر أن يؤسس جمهورية ثالثة، فالعقيد اعل ولد محمد فال بشهادة رفاق السلاح، كان أكثر أقرانه شغفا بقراءة سيرة ديغول وكتبه، لكن السياسيين الموريتانيين لم يرقهم الأمر وقتها ولم يكونوا مستعدين في ذلك الخريف لمسح الطاولة والبدء من جديد، اكتفوا بإعطاء بعض المنشطات للجمهورية الثانية المترهلة والمنهكة جدا،
في شتاء 2016 اختلفت الأمور، فأتباع ولد عبد العزيز المولهين مثل ساركوزي بجمهورية جديدة، هم الذين جاؤوا رئيسهم عشاء يحملون مشروع جمهورية ثالثة على طبق من ذهب، دستور فظ غليظ، يجعل الرئيس يتحكم في رقابنا وكل الأشياء في حياتنا، من نوع الأغاني التي نستمع إليها إلى ألوان أحمر الشفاه الذي تضعه نساؤنا!
الرجل فكر ورفض كل الإغراءات، "أنا أفكر إذن أنا موجود"، هي مقولة ديكارت الشهيرة التي كانت وراء أكبر الفتوحات الثقافية في عصرنا وأنقذت في طريقها الكثيرين من السقوط في الوحل، القادة الذين لا يفكرون، ينتهي بهم الأمر دائما إلى مزابل التاريخ،
لقد أراد ولد عبد العزيز أن يمنح موريتانيا شيئا أفضل من تلك الجمهورية الفظيعة، هو انتشالها من قائمة الديمقراطيات الرخيصة والمبتذلة، حيث عدد طبعات الدستور تعادل أو تفوق أحيانا عدد نسخ أكثر الجرائد والمجلات الصفراء مبيعا!
يكاد لا يوجد شبه بين شارل ديغول ومحمد ولد عبد العزيز، سوى أن كلا الرجلين كان جنرالا وكلاهما يملك منزلا ريفيا، وإن اختلفت كولومبى عن فيافي انشيري،
لكن كما فعلها أب الجمهورية الفرنسية الخامسة واختار الخروج من السلطة بعد أحداث مايو 1968، حين أحس بأن الوقت قد حان لكي يغادر القصر ويذهب ليستريح في منزله الريفي في كولومبى، اختار ولد عبد العزيز كذلك أن يخرج من السلطة ربما إلى منزله الريفي هو الآخر، بعدما منح بلده نصف جمهورية كانت أفضل بكثير وأجمل بكثير من عرض الرفاق الهزيل!
وتشاء الصدفة، أن خروج ولد عبد العزيز من السلطة عام 2019، سيحدث هذه المرة أيضا في شهر يوليو/ تموز!!