" هوامش علي رحلة الوداع "

سبت, 09/01/2016 - 15:35

بعد انتظار أسابيع ثلاث استقبلت أسرة وأقارب وذوو الشاب أحمد ولد باباه " حمدا " جثمانه في مطار العاصمة نواكشوط حيث تقدم الشيخ محمد الحسن ولد الددو جموع المستقبلين رفقة محمد سالم ولد باباه والد المرحوم وبعض الأقارب والأصدقاء
كان الجو هادئا لأن الصدمة الأولي مضى عليه قرابة عشرين يوما وقد سالت دموع كثيرين علي فقد شاب في مقتبل العمر كان مثقفا جميلا وخلوقا محترما تلقفه الأجل في غير ما جال بخاطر أهله وذويه
مئات إذا لم نقل آلاف المصلين حضروا ظهرا إلي ساحة ابن عباس في حضور مهيب ضم سياسيين بارزين أمثال أحمد ولد داداه وجميل ولد منصور وكثير من رجال المجتمع ورموزه
حضرت الجنازة في سيارة إسعاف تبعتها سيارة الشيخ الددو حيث تدافع الناس نحو سيارة الإسعاف يسترقون النظركل يظن أنه سيري ذلك الوجه الصبوح المتوضئ لكن إتقان الأمريكيين وإحكامهم إغلاق صندوقين عليه جعل تحقيق الوصول إلي موريتانيا كافيا وحده
يتلمس والد الشاب وصديقه الحسن السيارة والصندق وكأنهما يحسان بلمسة حنون لابن رحل دون أن يودع وصديق تخطفه الموت بعيدا عن الوطن لكن لمسة أخري أو نظرة أو حتي قربا منعها الحياء وصفوف الرجال من الوقوف في المكان نفسه وربما كانت أحق وأجدر لتقبل جبينا ابن تشهد له بالبرور وتراقب صندوقا يحمل فلذة كبد تعني لها الكثير بعد رحلة طويلة وطويله ختامها لقاء في جنان الخلد عند من يعلم حنانها وصبرها ويدرك حجم الفاجعة وألمها
أطال الشيخ الدعاء بالرحمة للشاب حمدا وغادرنا إلي مقابر الأهل والأقارب وروضة العلم والعلماء ببئر " شهلات " حيث ضريح العلماء محمد عالي ولد عدود وأبناؤه وسلسلة من علماء آل المبارك الكرام
كان القبر ينتظرفاتحا أذرعه للوافد الجديد في رسالة لنا نحن معشر المودعين وتذكيرا بحكمة بالغة لأحد علماء المجموعة :
باكِ علي ميته ميت ,, يبكي علي الميت من نوكه
فُتح الصندوق بعد مشقة وحمل الشاب في كفن أبيض يشبه قلبه ووجهه يتمايل بين أيدي حامليه لينا ونعومة ملمس ليضعه الرجل الفذ والأستاذ الخلوق " شلتوت " في رمسه ويشرف تحت أوامر الشيخ الددو علي ما كان يعلمه ويتقنه ولكن لذة تنفيذ أوامر الشيخ والعلامة والأخ الأكبر تزيد في الأمر حبا وكرامة
يقف الوالد علي جانب القبر متابعا لبنات تغلق القبر وكأن كل واحدة منها تضيق عليه فسحة من هذه الدنيا وحلمها الجميل فتتحرك الشفاه حوقلة ودعاء بالرحمة لتكون آخرها مؤذنة بحقيقة النهاية والوداع إلي حين وكأني به يقول
والمرء إن فــــــارقه حــــــبه "" ما عـــــذره إن هو لم يبــــكه
لو حلّ بابن اعمير ما حل بي "" لغاص تحت الأرض من دكّه
انهالت التراب من كل جانب بعد أن أذن الشيخ بذلك وكأن لسان حال صديقه الحسن تقول ,, أسمحت لكم أنفسكم أن تذرون التراب علي سجد الصديق والخل الوفي ؟؟؟؟
تحركت كل الشفاه بالدعاء وجاءت شهادات جميلة في حق الشاب وتنفس الوالد الصعداء وهو يقول لي علي جانب القبر لكأني أحس أنه لم يمت ما دام دفن هنا وصلي عليه هذا الجمع بقيادة الشيخ الددو لأن وصيته كانت أن يدفن هنا
قال لي ذلك فأحسست برغبة في البكاء وأنا أستمع إلي حروف كلماته تخرق جسمي المصاب أصلا بفاجعة لا أستطيع التفكير فيها حتي الآن لكني تحركت عن الوالد الصابر وغادرت إلي جانب آخر
ولولا كثرة الباكين حولي "" علي إخوانهم لقتلت نفسي
جاءت الشهادات تتري :
كان لينا وطيب الرائحة يقول الشيخ الددو
كان يحب المسلمين بقلب أبيض جميل يقول صديقه في الغربة وزميله في الدراسة توفيق ولد محمد موسي
كان يحس بالموت ويعمل من أجله يقول أحد العارفين به في أمريكا
كان بشوشا محبا مواظبا علي الصلاة في المسجد ومحبا للخير قالها كثيرون بعضهم شارك معه في مخيم لجمعية شبيبة بناء الوطن وبعضهم عرفه في الغربة وبعضهم خبره في موريتانيا وفي أحوال متعددة
غادر الكل وإن كانت نظرات الأهل لا تريد أن تبرح المكان وبقي الشيخ الددو واقفا علي القبر وحيدا وذلك موقف يحسنه الشيخ ويعلم ما ينبغي أن يقال فيه
غادرنا مقبرة " شهلات " إلي استراحة قريبة منه فصلينا المغرب والعشاء جمعا وقصرا وسلك كل سبيله
هي الدنيا تضحك منا من احلامنا وآمالنا فما بين أبو ظبي حيث ولد الشاب بداية التسعينات وتركيا حيث درس وحدود الولايات المتحدة والمكسيك حيث فارق الحياة تختتم المسيرة بمقبرة " شهلات " وسط حشود لا يدري أي منها أين ولا متي سيلاقي نفس المصير
إنا لله وإنا إليه راجعون
رحم الله حمدا وألهمنا الصبر والسلوان
من صفحة : محمد يحي ابيه على الفيس بوك